السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد الأسباب المكفرة للذنوب هي عشرة أسباب ذكرها شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله وهي أسباب مانعة من العقوبة بإذن الله تعالى وقد ذكرها في عدة مواضع من كتبه فى الفتاوي وغيرها ومن أجمع المواضع لها ماسطره في كتابه منهاج السنة النبوية الجزء 6 (235:205) فننقل لكم مختصرا مع بعض الإضافات من مواضع أخرى له
قال شيخ الإسلام بن تيمية :
السبب الأول : التوبة : فإن التائب من الذنب كمن لاذنب له والتوبة مقبولة من جميع الذنوب الكفر والفسق والعصيان قال تعالي ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ماقد سلف ) وقال تعالي ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) وقال تعالي ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلي الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ) وقال تعالي ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) قال الحسن البصري رحمه الله انظروا إلي هذا الجود والكرم فتنوا أولياءه وعذبوهم بالنار ثم هو يدعوهم إلي التوبة .
والتوبة عامة لكل عبد مؤمن قال تعالي ( ....ليعذب الله المنافقين والمنافقات ويتوب الله علي المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ) وقد أخبر الله في كتابه عن توبة أنبيائه ودعائهم بالتوبة قال الله تعالي ( فتلقي آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) وقول إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ) وقال موسي عليه الصلاة والسلام ( أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ) وأمثاله في القرآن كثير وأما المأثور عن النبي من ذلك فكثير وأصحابه رضي الله عنهم كانوا أفضل قرون الأمة فهم أعرف القرون بالله وأشدهم له خشية وكانوا أقوم الناس بالتوبة في حياته وبعد مماته . والله سبحانه يرفع عبده بالتوبة فإذا ابتلاه بما يتوب منه فالمقصود كمال النهاية لا نقص البداية فإنه تعالي يحب التوابين ويحب المتطهرين .
السبب الثاني : الإستغفار فإن الإستغفار هو طلب المغفرة وهو من جنس الدعاء والسؤال وهو مقرون بالتوبة في الغالب ومأمور به ولكن قد يتوب الإنسان ولايدعو وقد يدعو ولايتوب وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال ( اذنب عبد ذنبا فقال : اللهم اغفر لي ذنبي فقال الله تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أنه له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال : أي رب اغفر لي ذنبي فقال تعالي أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تعالي أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي ) .
والتوبة تمحو جميع السيئات وليس شيء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة قال تعالي ( قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) وقال بعدها ( وأنيبوا إلي ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لاتنصرون ) وأما الإستغفار بدون التوبة فهذا لا يستلزم المغفرة ولكن هو سبب من الأسباب .
السبب الثالث
الأعمال الصالحة : قال الله سبحانه وتعالى ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل يوصيه ( يامعاذ اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن )
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( الصلوات الخمس والجمعة إلي الجمعة ورمضان إلي رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر )
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه )
وقال صلي الله عليه وسلم ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )
وقال ( ( أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل كان يبقي من درنه من شيء قالوا لا قال كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا كما يمحو الماء الدرن ) وكل ذلك في الصحيح وفي الصحيح أيضا ( يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين )
وفي الصحيح ( صوم يوم عرفة كفارة سنتين وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة )
وكتاب الله تعالي مليء بما يؤيد ذلك كله
وشرح هذه الآحاديث يحتاج إلي بسط كثير . ومن الناس من يقول إذا كفر عني بالصلوات الخمس فأي شيء تكفر عني الجمعة أو رمضان وكذلك صوم يوم عرفة وعاشوراء وبعض الناس يجيب عن هذا بأنه يكتب لهم درجات إذا لم تجد ماتكفره من السيئات فيقال
أولا : العمل الذي يمحو الله به الخطايا ويكفر به السيئات هو العمل المقبول والله سبحانه إنما يتقبل من المتقين قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) قال أخلصه وأصوبه والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون علي السنة فصاحب الكبيرة إذا اتقى الله في عمل من الأعمال تقبل الله منه . ومن هو أفضل منه إذا لم يتق الله في عمل لم يتقبله منه وإن تقبل منه عمل آخر وفي السنن عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن العبد لينصرف عن صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها ) وفي الحديث ( رب صائم حظه من صيامه العطش ورب قائم حظه من قيامه السهر ) وكذلك الحج والجهاد وغيرهما وعليه فمحو الذنوب وتكفيرها يقع بما يتقبل من الأعمال وأكثر الناس يقصرون في الحسنات حتي نفس صلاتهم وهم يفعلون السيئات كثيرا فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء وبما يقبل من الجمعة شيء وبما يقبل من صيام رمضان شيء وكذلك سائر الأعمال
وليس كل حسنة تمحو كل سيئة بل المحو يكون للصغائر تارة ويكون للكبائر تارة باعتبار الموازنة فالحسنة الكبيرة تمحو السيئة الكبيرة . والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان علي وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله به كبائر كما روي الترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يصاح برجل من أمتي يوم القبامة علي رؤوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقال هل تنكر من هذا شيئا فيقول لا يارب فيقول لا ظلم عليك فتخرج له بطاقة قدر الكف فيها شهادة أن لا إله إلا الله فيقول أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات )
فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله ولم يترجح قولهم علي سيئاتهم كما رجح قول صاحب البطاقة .
وكذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ( بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه فيها العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثري من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتي رقي فسقي الكلب فشكر الله له فغفر له )
وفي لفظ في الصحيحين ( إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له موقها فسقته به فغفر لها )
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( بينما رجل يمشي في طريق وجد غصن شوك علي الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له )
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( دخلت امرأة النار في هرة ربطتها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتي ماتت) فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها وإلا فليس كل بغي تسقي كلبا يغفر لها وكذلك هذا الذي نحي غصن الشوك عن الطريق فعله إذ ذاك بإيمان خالص قائم بقلبه فغفر له بذلك فالأعمال تتفاضل بتفاضل مافي القلوب من الإيمان والإخلاص وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتهما كما بين السماء والأرض وليس كل من نحي غصن شوك عن الطريق غفر له قال تعالي ( ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوي منكم ) فالناس يشتركون في الهدايا والضحايا والله لا يناله الدم المهراق ولا اللحم المأكول والتصدق به لكن يناله تقوي القلوب فإذا علم أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها ويصغر قدرها بما في القلوب ومافي القلوب يتفاضل ولا يعلم مقادير ما في القلوب إلا الله عرف الإنسان أن ماقاله الرسول صلى الله عليه وسلم كله حق ولم يضرب بعضه ببعض
والمقصود : أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة بل لحقائقها التي في القلوب والناس يتفاضلون في ذلك تفاضلا عظيما .